الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)
.ذكر فتوح صهيون: ورحل عن اللاذقية طالباً صهيون واستدارت العساكر بها من سائر نواحيها في التاسع والعشرين ونصب عليها ستة مناجيق وهي قلعة حصينة منيعة في طرف جبل خنادقها أودية هائلة واسعة عظيمة وليس لها خندق محفور إلا من جانب واحد مقدار طوله ستون ذراعاً أو أكثر وهو نقر في حجر ولها ثلاثة أسوار سور دون ربضها وسور دون القلعة وكان على قلعتها علم طويل منصوب فحين أقبل العسكر الإسلامي شاهدته قد وقع فاستبشر المسلمون بذلك وعلموا أنه النصر والفتح واشتد القتال عليها من سائر الجوانب فضربها بمنجنيق الملك الظاهر صاحب حلب وكان نصب منجنيقاً قريباً من سورها فقطع الوادي وكان صائب الحجر فلم يزل يضربها حتى هدم من السور قطعة عظيمة يمكن الصاعد في السور الترقي إليه منها ولما كان بكرة الجمعة ثاني جمادى الآخرة عزم السلطان وتقدم وأمر المنجنيقات أن تتوالى بالضرب وارتفعت الأصوات وعظم الضجيج بالتكبير والتهليل وما كان إلا ساعة حتى رقي المسلمون على الأسوار التي للربض واشتد الزحف وعظم الأمر وهجم المسلمون الربض، ولقد كنت أشاهد الناس وهم يأخذون القدور وقد استوى فيها الطعام فيأكلونها وهم يقاتلون وانضم من كان في الربض إلى القلعة ويحملون ما أمكنهم أن يحملوا من أموالهم ونهب الباقي واستدارت المقاتلة حول أسوار القلعة ولما عاينوا الهلاك استغاثوا بطلب الأمان ووصل خبرهم إلى السلطان فبذل الأمان وأنعم عليهم على أن يسلموا بأنفسهم وأموالهم ويؤخذ من الرجل منهم عشرة دنانير ومن المرأة خمسة وعن الصغير ديناران وسلمت القلعة وأقام السلطان عليها حتى سلم عدة قلاع كالعبد وفيحه وبلاطنيس وغيرها من القلاع والحصون تسلمها النواب..ذكر فتوح بكاس: ثم رحل وسرنا حتى أتينا سادس جمادى الآخرى بكاس وهي قلعة حصينة على جانب العاصي ولها نهر يخرج من تحتها وكان المنزل على شاطئ العاصي وصعد السلطان جريدة إلى القلعة وهي على جبل يطل على العاصي فأحدق بها من كل جانب وقاتلها قتالاً شديداً بالمنجنيقات والزحف المضايق إلى تاسع الشهر ويسر الله فتحها عنوة وأسر من فيها بعد قتل من قتل منهم وغنم جميع ما كان فيها وكان لها قليعة تسمى الشفر قريبة منها يعبر إليها منها بجسر وهي في غاية المنعة ليس إليها طريق فسلطت عليها المنجنيقات من الجوانب ورأوا أنهم لا ناصر لهم فطلبوا الأمان في الثالث عشر وسألوا أن يؤخروا ثلاثة أيام لاستئذان من بإنطاكية فأذن في ذلك وكان تمام فتحها وصعود العلم السلطاني عليها يوم الجمعة سادس عشر ثم عاد السلطان إلى الثقل وسير ولده الملك الظاهر إلى قلعة سرمانية فقاتلها قتالاً شديداً وضايقها مضايقة عظيمة وتسلمها يوم الجمعة الثالث والعشرين من الشهر فاتفقت فتوحات الساحل من جبلة إلى سرمانية في أيام الجمع وهي علامة قبول دعاء الخطباء المسلمين وسعادة السلطان حيث يسر لنا الله الفتوح في اليوم الذي يضاعف فيه ثواب الحسنات وهذا من نوادر الفتوحات في الجمع المتوالية ولم يتفق مثلها في تاريخ..ذكر فتوح برزية: ثم سير السلطان جريدة إلى قلعة برزية وهي قلعة حصينة في غاية القوة والمنعة على سن جبل شاهق يضرب بها المثل في جميع بلاد الإفرنج والمسلمين يحيط بها أودية من سائر جوانبها وذرع علوها كان خمسمائة ذراع ونيفاً وسبعين ذراعاً ثم جدد عزمه على حصارها بعد رؤيتها واستدعى الثقل وكان نزول الثقل وبقية العسكر تحت جبلها في الرابع والعشرين من الشهر وفي بكرة الخامس والعشرين منه صعد السلطان جريدة مع المقاتلة والمنجنيقات وآلات الحصار إلى الجبل فأحدقت بالقلعة من سائر نواحيها وركب القتال من كل جانب وضرب أسوارها بالمنجنيقات المتواترة الضرب ليلاً ونهاراً وفي السابع والعشرين قسم العساكر ثلاثة أقسام ورتب كل قسم يقاتل شطراً من النهار ثم يستريح ويسلم القتال للقسم الآخر بحيث لا يفتر عنها القتال عنها أصلاً وكان صاحب النوبة الأولى عماد الدين صاحب سنجار فقاتلها قتالاً شديداً حتى استوفى نوبته وضرس الناس من القتال وتراجعوا واستلم النوبة الثانية السلطان بنفسه وركب وتحرك خطوات عدة وصاح في الناس فحملوا عليها حملة الرجل الواحد وقصدوا السور من كل جانب فلم يكن إلا بعض ساعة حتى رقي الناس على الأسوار وهجموا القلعة وأخذت القلعة عنوة فاستغاثوا بالأمان وقد تمكنت الأيدي منهم فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ونهب جميع ما فيها وأسر جميع من كان فيها وكان قد أوي إليها خلق عظيم وكانت من قلاعهم المذكورة وكان يوماً عظيماً وعاد الناس إلى خيامهم غانمين وعاد السلطان إلى الثقل فرحاً مسروراً وأحضر بين يديه صاحب القلعة وكان رجلاً كبيراً منهم وكان هو ومن أخذ من أهله سبعة عشر نفساً فمن عليهم ورق لهم وأنفذهم إلى صاحب أنطاكية استمالة له فإنهم كانوا يتعلقون به ومن أهله..ذكر فتوحات دربساك: ثم رحل حتى أتى جسر الحديد وأقام عليه أياماً وسار حتى نزل على دربساك يوم الجمعة ثامن عشر رجب وهي قلعة منيعة قريبة من أنطاكية فنزل عليها وقاتلها قتالاً شديداً بالمنجنيقات وضايقها مضايقة عظيمة وأخذ النقب تحت برج منها وتمكن النقب منه حتى وقع وحموه بالرجال والمقاتلة ووقف في الثغرة رجال يحمونها ممن يصعد فيها ولقد شاهدتهم وكلما قتل منهم رجل قام غيره مقامه وهم قيام في عرض الجدار مكشفون فاشتد بهم الأمر حتى طلبوا الأمان واشترطوا مراجعة أنطاكية وكانت القاعدة أن ينزلوا بأنفسهم وثياب أبدانهم لا غير ورقي العلم الإسلامي في الثاني والعشرين من رجب وأعطاها علم الدين سليمان بن جندر وسار عنها في الثالث والعشرين منه..ذكر فتوح بغراس: وهي قلعة منيعة أقرب إلى أنطاكية من دربساك وكانت كثيرة العدة والرجال فنزل العسكر في مرج لها وأحدق العسكر بها جريدة مع أنّا احتجنا إلى يزك في تلك المنزلة يحفظ جانب أنطاكية لئلا يخرج منها من يهاجم العسكر فضرب يزك الإسلام على باب أنطاكية بحيث لا يشذ عنه من يخرج منها وأنا ممن كان في اليزك بعض الأيام لرؤية البلد وزيارة حبيب النجار المدفون فيها ولم يزل يقاتل بغراس مقاتلة شديدة حتى طلبوا الأمان على استئذان أنطاكية ورقي العلم الإسلامي عليها في ثاني شعبان وفي بقية ذلك اليوم عاد رحمه الله إلى المخيم الأكبر وراسله أهل أنطاكية في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر وقوة قلق عماد الدين صاحب سنجار في طلب الدستور وعقد الصلح بيننا وبين أنطاكية من بلاد الإفرنج لا غير على أن يطلقوا جميع أسارى المسلمين الذين عندهم وكان إلى سبعة أشهر فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد إلى السلطان. ورحل يطلب دمشق فسأله ولده الملك الظاهر أن يجتاز به فأجابه وسار حتى أتى حلب حادي عشر شعبان وأقام بقلعتها ثلاثة أيام وولده يقوم بالضيافة حق القيام ولم يبق من العسكر إلا من ناله من نعمته منال وأكثر ظني أنه أشفق عليه والده وسار من حلب يريد دمشق فاعترضه ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين وأصعده إلى قلعة حماة واصطنع له طعاماً حسناً وأحضر له سماع الصوفية وبات فيها ليلة واحدة وأعطاه جبلة واللاذقية وسار على طريق بعلبك حتى أتاها وأقام بمرجها يوماً ودخل إلى حمامها وسار منها حتى دخل رمضان وما كان يرى تخلية وقته عن الجهاد مهما أمكنه وكان قد بقي له القلاع القريبة من حوران التي يخاف عليها من جانبها كصفد وكوكب فرأى أن يشغل الوقت بفتح المكانين في الصوم..ذكر فتح صفد: ثم سار في أوائل رمضان من دمشق يريد صفد ولم يلتفت إلى مفارقة الأهل والأولاد والوطن في هذا الشهر الذي يسافر الإنسان أين كان فيجتمع فيه بأهله. اللهم إنه احتمل ذلك ابتغاء مرضاتك فآته أجراً عظيماً. فسار حتى أتى صفد وهي قلعة منيعة قد تقاطعت حولها أودية من سائر جوانبها فأحدق العسكر بها ونصب عليها المناجيق في أثناء شهر رمضان المبارك وكانت الأمطار شديدة والوحول عظيمة ولم يمنعه ذلك عن جده، ولقد كنت عنده في خدمته ليلة وقد عين مواضع خمس مناجيق فقال ما ننام حتى تنصب الخمسة وسلم كل منجنيق إلى قوم ورسله تتواتر إليهم يعرفونهم كيف يصنعون حتى أظله الصبح وقد فرغت المنجنيقات ولم يبق إلا تركيب خنازيرها فيها فرويت له الحديث المشهور في الصحاح وبشرته بمقتضاه وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «عينان لا تمسهما النار، عين باتت تحرس في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله»، وفي أثناء شهر رمضان سلمت الكرك من جانب نواب صاحبها وخلصوه بها من الأسر وكان قد أسر في وقعة حطين المباركة ثم لم يزل القتال على صفد متواصلاً بالبون مع الصوم حتى سلمت بالأمان في رابع عشر شوال..ذكر فتح كوكب: ثم سار يريد كوكب فنزل على الجبل وجرد العسكر وأحدق بالقلعة وضايقها بالكلية بحيث اتخذ له موضعاً يتجاوز نشاب العدو ونباله حائطاً من حجر وطين يستتر وراءه حتى لا يقدر أحد يقف على باب خيمة إلا إن كان ملبساً وكانت الأمطار متواترة والوحول عظيمة وعانى شدائد وأهوالاً من شدة الرياح وتراكم الأمطار وكون العدو مسلطاً عليهم بعلو مكانه وقتل وجرح جماعة ولم يزل راكباً مركب الجد حتى تمكن من النقب من سورها، ولما أحس العدو المخذول أنه مأخوذ طلب الأمان فأجابهم إلى ذلك وأمنهم وتسلمها في منتصف ذي القعدة ونزل على الفور إلى الثقل وكان قد أنزله من شدة الوحل والريح في سطح الجبل فأقام بقية الشهر يراجعه أخوه الملك العادل في أشغال شخصية حتى هل هلال ذي الحجة وأعطى الجماعة دستوراً وسار مع أخيه يريد القدس لزيارته ووداع أخيه فإنه عائداً إلى مصر فوصلا إليه يوم الجمعة ثامن ذي الحجة وصلينا الجمعة في قبة الصخرة الشريفة وصلينا صلاة العيد الأعظم بها أيضاً يوم الأحد وسار حادي عشر طالباً عسقلان لينظر في حالها فأقام بها أياماً يلم شعثها ويصلح أحوالها فودع أخاه وأعطاه الكرك وأخذ منه عسقلان وعاد يطلب عكا على طريق الساحل ويمر على البلاد يتفقد أحوالها ويودعها الرجال والعدد حتى أتى عكا فأقام بها معظم محرم سنة خمسة وثمانين ورتب بها بهاء الدين قراقوش والياً وأمره بعمارة السور والإطناب فيه ومعه حسام الدين بشارة وسار يريد دمشق مستهل صفر سنة خمسة وثمانين..ذكر توجهه إلى شقيف أرنون وهي السفرة المتواصلة بواقعة عكا: وأقام بدمشق حتى دخل ربيع الأول ثلاثة أيام ووصله في أثناء ربيع الأول رسل الخليفة الناصر لدين الله يأمره بالخطبة لولده ولي العهد فخطب له وجدد عزمه على قصد شقيف أرنون وهو موضع حصين قريب من بانياس وكان تبريزه في الثالث فسار حتى نزل مرج برغوث وأقام به ينتظر العساكر إلى حادي عشرة ورحل حتى أتى بانياس ثم رحل منها حتى أتى مرج عيون في السابع عشر فخيم به وهو قريب من شقيف أرنون بحيث يركب كل يوم بشارفه والعساكر تجتمع وتطلبه من كل صوب وأوب فأقمنا أياماً نشرف كل يوم على الشقيف والعساكر الإسلامية في كل يوم تصبح متزايدة العدد والعدد وصاحب الشقيف يرى ما يتيقن معه عدم السلامية فرأى أن إصلاح حاله معه قد تعين طريقاً إلى سلامته فنزل بنفسه وما أحسسنا به إلا وهو قائم على باب خيمة السلطان فأذن له فدخل فاحترمه وأكرمه وكان من كبار الإفرنجية وعقلائها وكان يعرف بالعربية وعنده إطلاع على شيء من التواريخ وبلغني أنه كان عنده مسلم يقرأ له ويفهمه وكان عنده ثاني فحضر بين يدي السلطان وأكل معه الطعام ثم خلا به وذكر له أنه مملوك وأنه تحت طاعته وأنه يسلم المكان إليه من غير تعب واشترط أن يعطى موضعاً يسكنه بدمشق فإنه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الإفرنج وإقطاعاً بدمشق يقوم به وبأهله وأن يمكن من الإقامة بموضعه وهو يتردد إلى الخدمة ثلاثة أشهر من تاريخ اليوم الذي كان فيه حتى يتمكن من تخليص أهله وجماعته من صور فأجيب إلى ذلك كله وأقام يتردد إلى خدمة السلطان في كل وقت ويناظره في دينه ونناظره في بطلانه وكان حسن المحاورة ومتأدباً في كلامه وفي أثناء ربيع الأول وصل الخبر بتسليم الشوبك وكان قد أقام السلطان عليه جمعاً عظيماً يحاصرونه مدة سنة حتى فرغ زادهم وسلموه بالأمان.
|